sliderتقاريرثقافة ومجتمع

شاعر إفريقي، يربك لجنة التحكيم في مسابقة أمير الشعراء!

 

شاءت الأقدارُ السماويَّةُ أن تَكْشِفَ لَنَا مُبرِّراً للاستغناء عن ذلك الثلاثي المشتعلِ شيباً، والقابضِ على مقاليدِ الحكْم الخاصَّةِ بالشعر العربي المعاصرِ، زهاء عقْدٍ من الزَّمنِ دون أخْذِ أيِّ اعتبارِ ــ في اختيارِهم ـــ لجمهور الشعر نقَّاداً، وقرَّاءً فضلا عنْ صُنَّاعِهِ !

ولسْتُ أدْري هل عجَمَ البرنامجُ المحترَمُ كِنانِتَه ولم يُفلحْ بغيرِ ثلاثة رماحٍ، من الزمن الغابر، فاحتفظَ بها كي تعالجَ له مختلف التحديات الشعرية على مدارِ سنين! أم أن أسواقَ النقْد الأدبي العربي فَسَدتْ، وكسَدَتْ، وصبَّ عليها ربُّنا سوطَ عذابٍ، وحُقَّ عليها القول الإلهي وحاقَ بها مكْرُ السيئين، حتى عفتِ الديارُ محلُّها فمُقامُهاَ، ولمْ يبْق سوى ثلاثةِ أثافيَ جيء بِها كتحفة أثريَّةٍ خالدةٍ، لا تتَبَدَّلُ ولا تتَغيَّرُ!!!

ونعني الشيوخ الثلاثة الأجلاءَ، حكَّام مسابقة إمارة الشعراء: (عبد الملك مرتاض، صلاح فضل، علي بن تميم).

ليسَ نقْدي لتلك اللجنة الميمونة مبنياً على التقليلِ من شأنِ هؤلاء العمالقَة في الساحة النقدية، ولا لأنهم لم يُتوِّجوا أخي الشاعر عبد المنعم حسنْ، ولا لأنَّهُم يُخالفون الصَّوابَ دوما في إطلاق الأحكامِ…. ولستُ من منافسيهم الراغبينَ في أن يحلُّوا محلَّهم ماديا، ومعنويا….

بل بِدافعين اثنين: أولهما معرفتي بأن الساحة النقدية العربية مزدهرة بأعلامٍ، ونجومٍ من النقاد المعاصرين، ولا أستوعبُ احتكار الثلاثة للجنةٍ مهمَّةٍ كهذهِ هكذا منذ سنوات!

الثاني أن هؤلاء رغم جلالتهم ينتمون للقرْنِ الماضي، وليس لعصر اليوتيوبيا، والواتساب، والحساسية الجديدة! ولذلك أرْبَكَهم المبْدع المالي المفاجئ، صاحب النشأة السعودية في هذا الموسِمِ بِنصّيْه الفارديْن المتجاوزين مرحلة المحاكاة، والمحلية إلى الانغماس في أغوارِ الوجود، بحْثاً عن معاني المعاناة الماثلة في الكينونة

“جريئًا كالسِّحْرِ الطَّاغِي في تَحْديقَةِ نَسْرٍ” كما قال!

لقدْ فاجَأَهم الشاعر كما صوَّر لنا البثُّ الحي مشكوراً، وارتَبَكوا حتَّى ارتكَبُوا ستَّ خَطايا في دين الأدب، وأقَرُّوا بها، كلّ واحدٍ بِخَطيئِتين:

الدكتورُ صلاح فضل : يعترف بأَنّه لم يَسْمَع قطُّ بكلمة “السافانا” ! ثم يصَرِّحُ بأنَّه لم يفهم النصَّ!

الدكتور عبد الملك مرتاض: يختلط عليه شعر التفعيلة والشعر العمودي ! ثم يدْعو الشاعر أخيراً إلى خطيئة “تقليد غيره” !!!

الدكتور علي بن تميم: فكَّر وقدَّر، ثمَّ فكَّر وقدَّر كعادته الغريبة في البحث عن التناصِّ، وأخيراً أنكرَ أيَّ معنى للنص، ثم يلوم شاعر الحداثة بنْفي الرابطِ بين المعاني.

والحال أنَّ الشاعرَ النَّسْرَ أغرَقَ اللجنة الكريمة بماءِ حلِمِه، وأشْكَلَ عليهم ب “مُحيطِ الأَشْكالِ”، الذي ودَّ أن يجثمَ عليه “قِنْديلُ الله”!

“حيثُ الْجَسَدُ الْقَاتِمُ يَلْمَعُ في الصَّهَدِ القُدْسِيِّ”

وهُو يَتَحدَّثُ عن ” ذكرى تَتوهّج في الدِقّة” ! كما يسمي قصيدته، أو عن

(حلم العودة إلى الأصل: الماء)

كما أعنون قراءتي لها.

ذكرى تَتوهّج في الدِقّة ــــــــــــــــ الشاعر/ عبد المنعم حسن:

ليحقق الشاعر أمنيته في رحلته نحو البدايات، ويحظى بالعودة إلى الأصل “الماء/البياض”، توزَّع النص إلى وحداتٍ متسلسلة، مترابطة عكْس ما يقوله الناقد علي بن تميم، بل إلى “مقامات، ومدارج” يعرفها أهل العرفان، وأصحاب الفن:

1 . مقام المكابَدة ـــ والنهر الحزين:

قنديلُ الله الساطعُ يجثم فوق محيط الأشكالِ

جريئًا كالسحر الطاغي في تحديقة نسر

أدخُل عبر دهاليز الأفق إلى بهوٍ من فخّارٍ

وامرأةٌ راكعةٌ تكنس رمل الذكرى

.. أتعثَّر بتماثيل العاج، عروقِ التِّبْر الكامن في الأصلاد،

طبولٍ جفَّت فيها أذرعُ أسلافي…

ورماحٍ مُنْهكةٍ كم ما طعنَتْ أقمارًا وأيايِلَ!

لولا أن النهر ينام حزينًا ووحيدا،

ما مدُّوا كفًّا للأبنوس

إنَّ معانقة نصٍّ باذخٍ كهذا، أو معاقرَة خمْرٍ مثل هذا الشعر … تستوجب العديد من الأدواتِ، والأناةِ، لأنَّه فعْلاً نفّاثات ساحرٍ فنَّانٍ، وطلاسمُ صوفيٍّ ولهان، غاصَ عميقاً في دهاليز الوجودِ، ولا يمتطي سوى الحرْفِ الريَّان بالدلالات، والإيحاءات !

بطرفة عين ينفذُ الشاعر إلى ما وراء الطبيعة، فوق محيط الأشكال، فوق عالمنا هذا! حيث يتجسد نور الله، وتتجلّى الحقيقة دون أسماءٍ! يدخل عبر دهاليز الأفق، تلك الدهاليز التي تقوده إلى مشاهد ذات إيحاءات قوية:

ــ تلك المرأة هناك راكعة، تكنس رمل الذكريات: قل عنها الطبيعة، قل عنها القصيدة قبل أن تنتصر، سمِّها افريقيا أو ما تشاء… لكن فنيا تغنينا هذه الصورة بحد ذاتها !!!

ـــ يتعثَّر الشاعر أثناء العبور بمجموعات متناقضة، لكنها كلها اعترضت طريقه: تماثيل العاج، عروق التبر، الرماح، الطبول والأسلاف …. وهي رموز يمكن تأويلها بالأديان: “التماثيل”، والمال: “التبر”، والسياسة وحروبها: “الرماح”، والأهواء والعنصرية: “الطبول والأسلاف”، وهي خلاصة إشكاليات الوجود البشري: (الدين/ الاقتصاد/ السياسة/ العنصرية)!

إن عشْقَ الشاعر للطبيعة، وأشيائها، والانتصار لها هو الأمر الأبرز في النصِّ، ويبدأ هاجس الانتصار لعناصر الطبيعة من آخر هذا المقام، إذ يتمنى لو لم يمد الناس أكفهم إلى “الأبنوس”: نوع من الخشب الجميل، لكن للأسف “سيد الطبيعة” النهر ينام حزيناً وحيدا، (وجعلنا من الماء كلَّ شيء حيٍّ)، فلولا ذلك النوم المشوب بالحزن لما مدُّوا أيديهم الملطخة بالدماء إلى هذه الشجرة البريئة، فيقطعوها من جذورها!

3 . مقام الكشْف والتجلِّي:

ولكن ما مَسُّوا جذرا

ثمَّةَ أشياءٌ لم تمسسْها قَطّ يدٌ

منذ هيولى البذرة

وكذلك تبقى في الأبديّة عاريةً من زيف الأسماء

. أسمعُ هسهسة الذكرى الأولى

إذ تتدحرج بين الأحراش

تُراوغ أفيال السافانا؛ كيلا تدفنها في أوْج براءتِها.

ما أحلى موج الذكرى.. يتمدد في دعةٍ دون نشاز!

يتراقص كالنحل على أوتار القيثارة

أَجَلْ، مهما فعلوا ستبقى أصول الأشياء ثابتة، سيظلُّ هناك ما لم تُدنِّسْها يدُ بشر، ستستمر الحقيقة موجودة، وإن لم يكن لها اسمٌ… ذلك هو ما تجلَّى لشاعرنا، وخلال هذا الكشْف الذي أسْعدَ الشاعر كثيرا، وجسَّده في صورةِ “موْجٍ يتراقص كالنَّحْل على أوتار القيثارة”، خلال الاستمتاع الكبير بهذه الذكرى، يتعمَّدُ اختيار صورةٍ افريقية، ويخلّدُ بها بعض العناصر الطبيعية، منتصراً لها كعادته مرة أخرى لكن هذه المرة نوعٌ من الحيوانات “أفيالَ السافانا”، إلا أن هناكَ مفارقةً بين الصورة الأولى والثانية، ف” الأبنوس” الضعيف مدَّت الأكف إليه، و “الأفيال” تتمُّ مراوغتها فقط!

مقام التحدي والفناء:

والأرضُ الطفلة تسبح في نبضي

عدتُ إلى لوني من صدأ الميناء ورَعد الإذعان،

وصلتُ إلى الذاكرةِ الكبرى..

حيثُ الْجَسَدُ القاتِمُ يَلْمَعُ في الصَّهَد القدسيِّ

وأولُ أسرابِ الفجْرِ يَمُرُّ بِصَمْتٍ ثمَّ يَغيبْ

. أصداءُ مطارق تَتَصاعَدُ بين مرايا النار

ورائحةُ دُخانٍ لاغيةٌ تتحدى الغبش،

انطفأتْ جَذْوَتُه في طَقْسٍ أَزْرَق

نداء الأرض الساحرة، السابحة في نبضِ الشاعر، هو الذي أسرى به من المقام الأول إلى المنتهى، ومن مراوغة ساحرنا المجنون هنا التلميح إلى قصَّة آدم هنا، وعودته إلى أصله الأول “التراب”، وإذا كان الشيطان هو الذي سبح في دم آدم، فإن ما أغرى عبد المنعم للعودة هو “الأرض” نفسها، فهي “طفْلةٌ فاتنةٌ” ! وفي بعض الإسرائيليات لا يخفى وجود دورٍ لأمِّنا “حواء” في أزمة ترحيل أبينا إلى الأرض، إلا أن رجوع الشاعر إلى الأرض، هو قراره “عدتُّ”، ويفضِّل عودتَه إلى “ذاته/ أصله”، فهناك سيجد مزيدا من الحرّيَّة، لا الإذعان!

لكن ما إن يمكثُ طويلا حتى يصل إلى “الاكتشاف الأكبر”، الذاكرة الكبرى! فيبصر الصورة الحقيقية لوجود البشر على الكوكب الأرضي:

(لا شيء سوى جسد أغبر، يلوحُ في لهيب النّارِ، وأصواتِ مطارق بين مرايا النار، وليلٍ دائمٍ، لم يمرّ به سوى أوَّل أسراب الفجْر بصمتٍ، ثم يغيبْ، ولا يعودُ ! ورائحةُ دخانٍ تَتَحدَّى آخرَ الَّليْل “الْغَبَش”، فيدركُ نفْسَه فجأة وهو يفنى قليلا قليلا، إلى “أَنْ تَنْطِفئَ جذْوَتُه في طقْسٍ أزرق”)!

هذا هو جزاء العودة إلى الأرض، ولذلك يُخيل للشاعر أن العودة إلى لونه/الأرض لا تكفي، فهو له أصل أكبر من ذلك، إنه “الماء”!! ولونه الأصلي “البياض”، ليس الزرقة، ولا السواد، ولا أي شيء آخر، باعتبار أن “البياض هو أول الألوان، وهو لون الماء إن كان للماء لونٌ:

وقبل المضي مع الشاعر إلى معراجه الأخير يجب التأكيد على أهمية “أسطورة الماء” في مخيلته وكذا “أسطورة اللون الأبيض”، بالنظر سيميائيا إلى هيمنة الماء، والبياض على معجم القصيدة، إذ وردت مفردة الماء وما في معناها ثماني مرات، مثل “الْمُحيط، والنَّهَر، والسَّباحَة، والقَارَبُ، والْمَاءُ: أربع مرات”، ومعجم البياض في النص أيضا ثماني مرات!: القِنْديلُ، التِّبْر، أقمار، أيايِل، الفجْرُ، الدخان، الماء، النيلوفر: نبات أبيض، الزهر الأبيض، الزنبق: نبات أبيض.

ولهذا التركيز نرى الشاعر مسكونا بِهَمِّ العودة إلى الأصل الأكبر، والأول: الماء، وإلى لون البياض، أو بعبارة أصح: لون الماء، ويعتبر تلك العودة حقيقة الانتصار، ومنتهى التتويج!

4 . مقام الحلْم والانتصار:

ها هي سيدةٌ تنبع من حلم الماء

وتفتح أبواب الماءْ

تحترق سماوات الذكرى في عينيّ

فهل يطفئها غير النيلوفر غِب تَفَتُّحِه؟!

يعبر في قاربه الشاعر بالزهر الأبيض

ثم يحدق في حزن الماء طويلاً

ويجُسُّ العود؛ ليترك للريح صدى من عطر الزنبق

فتُصيخ الغابة والصحراءْ

لئنْ كانت المرأة الأولى في المقطع الأول راكعةً تكنس رمْلَ الذكرى فإن هذه سيدةٌ شامخةٌ تنبعُ من حلْمِ الماء!!! وتفتحُ الأبوابَ، فَيَنتَشي الشاعر لدرجة احتراق الذكريات في عينِه، والتي لا يطفئها سوى النيلوفر المتفتح.

يعود الشاعر إلى نهرِه الحزين منتشيا بالانتصار، فيحدِّقُ فيه طويلاً ثم يطلق العنان لعوده كي يصدح، ويرقصَ، تاركاً صدى خرافيا معطَّرا بالزنبق، فتنصت الدنيا كلها، الغابة والصحراء!!

الإضاءة الأخيرة:

إن النصوص العظيمة كما أثبت نقاد الحداثة تتسم بلا نهائية المعنى، فلكلِّ قارئٍ الحقُّ في التأويل وفْق ما تجيزهُ أعراف التأويل، والتأويل أعلاه لا ينفي تأويلات أخرى، بل يغوص معها في خضم هذا النص الجليل، خاصَّة وأن الشاعر في مستوى أقل إغراقاً يمكن أنه يتحدث عن قصيدتيه التي شارك بهما في هذه المسابقات:

ــ تتخذ الأولى صورة المرأة الراكعة التي تكنس رمْل الذكرى

ــ وتتجسد الثانية في صورة السيدة التي تنبع من حلْم الماء

فالقصيدة الأولى عمودية، تقليدية راكعة، تتحدث عن الذكريات، والتصوف، والماضي…. وبها يدخل دهاليز الساحة التي تقوده إلى بهْوٍ من فخَّارٍ، هو قاعة المسابقات، وشاطئ الراحة في أبو ظبي.

أما القصيدة الثانية فحقّا سيدة حرة، بلا لون، سوى لون الماء، لون الأصالة، والحياة، والبدء!، وهي التي تحقق التتويج بلقب أمير الشعراء، فتحترق سماوات الذكريات في عيني الشاعر من شدة الانتشاء، ويترك صدىً قويا تستمع له الدنيا ! ولا ننسى رمزية الماء هنا، والخليج الذي تجري فيه المسابقات، والشاعر يبحث عن حلمه في الخليج/ الماء !

كما نُذكِّرُ أنه قد يشير من جهة أخرى بهذه الرحلات في النص إلى رحلاته الواقعية بين افريقيا، وأفيال السافانا، وبين الخليج والنيلوفر: من بلده مالي إلى السعودية، ثم من السعودية عائدا إلى أصله مالي، ثمَّ ها هو الآن يعود إلى “الخليج” مرة أخرى باحثا عن مصافحةِ الحلم، عبر تاج إمارة الشعر! وبإمكان هذه القصيدة أن تحقق له الحلْم! وتفتح له أبواب الخليج، أو أبواب الماء كما يسميها، ولكن شيوخ المسابقات الثلاثة لم يعطوا النص حقه من الوقت، والاهتمام كي يفهموه أصلا.

*الجامعة الإسلامية بالنيجر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى